خلق الله للإنسان لسانا يبين به ويفصح عن مكنونات نفسه، ويعلن به رغباته وأفكاره للناس، به ميزه على كل خلقه، وجعل الألسنة مغارف للقلوب، وبالقول يظهر ما خفي في ضمائر الناس، فالساكت مجهول وربما مثير للريبة فان تكلم ظهرت خباياه مهما حاول إخفاءها، فللسان سقطات وزلات تكشف كل مستور، وصدق الله حين يقول: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.
وعند تحاور اثنين في قضية ما أو في مفاوضة، غالبا ما يميل أحدهما لرأي الآخر- حتى وان لم يظهر ذلك- لقوة حجته وبيانه ولحسن نظم وترتيب أفكاره.
ولقد كان أفضل الناس وخير النبيين محمد صلى الله عليه وسلم- الذي آتاه الله جوامع الكلم- في حواره مع غيره من الناس يمثل النموذج الأسمى- الذي يجب أن يحتذى به- لتجسيد مفهوم الحوار الإسلامي الذي يحترم محاوره ويقنعه بل ويؤثر في شخصيته.
وسنعرض لحوار دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وسيد من سادات مكة وذلك في بداية الدعوة الإسلامية.
فيروى ابن هشام في السيرة أن عتبة بن ربيعة جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة- المكانة- في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا لعلك تقبل بعضها.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع»، فقال له عتبة ما قال حتى إذا فرغ قال له: «أوقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاسمع مني». قال: أفعل. فأخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليه من سورة فصلت، حتى انتهى إلى الآية موضع السجدة منها وهي الآية 37، سجد، ثم قال لعتبة: «قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذلك»، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وطلب عتبة إليهم أن يدعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه، فأبوا وقالوا له: سحرك يا أبا الوليد بلسانه.
ونتعرض هنا لعدة نقاط هامة في هذا الحوار لنتبين كيف أداره النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وخرج منه بأفضل المكاسب المتاحة فيما قدره الله عز وجل.
- شخص المحاور: هو عتبة بن ربيعة، وهو سيد من سادات مكة بل كان يمثل لحظتها الرجل الأول في مكة، فالصف الأول من قادة المشركين في مكة- دون سادات بني عبد المطلب- كان يتمثل في ثلاثة رجال- كلهم لم يسلموا- وهم الوليد بن المغيرة أبو الصحابي الجليل خالد بن الوليد، والثاني عتبة بن ربيعة، والثالث أبو جهل عمرو بن هشام، إلا أن الوليد بن المغيرة قد هلك في بدايات الدعوة الإسلامية وبقي الرجلان فكان أكثرهما حكمة وتعقلا ورأيا عتبة بن ربيعة، وكان الآخر يمثل الطيش والجهل والتهور فكان يسعر كل نقاش ويتزعم كل صدام ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وكان الصف الثاني من قادة قريش أمية بن خلف الجمحي والأخنس بن شريق وأبو سفيان بن حرب وهو الوحيد من بينهم الذي لحقه شرف الانتساب للإسلام رضي الله عنه.
ويعتبر عتبة بن ربيعة صوت العقل والحكمة في هذه المجموعة من كفار قريش، بل ونصحهم أكثر من مرة قبل هذا اللقاء وبعده بأن يتركوا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويخلوا بينه وبين العرب، فإن غلب العرب وساد عليهم، فالعز عز قريش لأنه رجل منهم، وإن غلبوه فقد تخلصت قريش منه دون أن تتورط في دم أحد أبنائها، لكنهم ما سمعوا لرأيه لوجود شخصية متهورة غاشمة مثل شخصية أبي جهل التي كانت تحاول الإبقاء على حالة الحرب والصدام والعداوة.
وكانت أخر نصائح عتبة لقريش في الليلة السابقة لغزوة بدر والتي تعهد فيها بأن يدفع دية الرجل الذي قُتل من أهل مكة- وهو المبرر الأول الذي ساق به أبو جهل الناس لغزوة بدر- وان يتحمل لوم العرب بأن يقال في حقه جبن عتبة في سبيل حقن دماء القرشيين، ولكن أبا جهل أفسد أيضا هذا الاقتراح.
وعرف له رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاحة عقله وحكمته، فقال للصحابة قبيل المعركة: «إن كان في القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر- ويقصد عتبة بن ربيعة الذي كان يركب جملا أحمر- إن يطيعوه يهتدوا» ولكنهم لم يطيعوه وما استطاع هو مفارقة قومه حتى كان من أوائل من قُتل يوم بدر في المبارزة التي سبقت القتال.
إذن فقد أرسلت قريش رجلها الأول وكبير مفاوضيها وصوتها العاقل الحكيم لهذه المهمة الجسيمة ولهذا الحوار الفريد.
- توقيت الحوار: كان الحوار مفاجئا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعرف به إلا حينها، بينما كان الطرف الآخر متجهزا مستعدا متأهبا، وليس بأفكاره وحده ولكن بالاستعانة بأفكار الآخرين ومناقشتهم فيما سيعرضه في الحوار وما يقبله ومالا يقبله من أطروحات، ومعلوم أن الطرف الذي أعد للحوار عدته تكون له الغلبة غالبا بوجود عنصر المفاجأة، ويكون متفوقا على الطرف الآخر الذي يرتبك في بداية الحوار، وربما يقبل الطرف الآخر أو يرفض العروض دون دراسة كافية ودون تأمل في العواقب لعدم وجود وقت كاف لدراستها.
- بداية الحوار: كانت الكلمة الأولى لعتبة بن ربيعة الذي جاء محملا بعدة عروض لعل النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعضها، وذلك في كلمات موجزة نتبين منها إستراتيجية ذلك المحاور البارع والداهية الماكر في عرض فكرته ومنها:
- البدء بكلمة يا ابن أخي بكل ما تحمله من استثارة نفسية عاطفية، إن استثارة الجانب العاطفي في نفسية المحاوَر واستثماره في تغييب صوت العقل لشديد الخطورة في المفاوضات، وينصح به ويفعله كل من يريد أن يتخفى في عروضه ويريد أن يقبلها المعروض عليه رغم عدم قوتها أو ضعف حجيتها، وليس أدل على ذلك من الخطاب العاطفي للرجل كبير السن إذا خاطب واحدا من الناس أو خاطب شعبا بأسره، فالخطاب العاطفي يغير المواقف ويبدل الأفكار ويطمس الحقائق، وفي هذا محاولة لتحطيم خطوط الدفاع لدى المحاوَر، ويستخدمه الآن الكثيرون في دنيا الحوارات أو في دنيا السياسة، ورأينا مؤخرا تأثيره الكبير في شعوب بأسرها.
- التثنية بالثناء على المحاوَر إنك منا حيث قد علمت.... ، والإنسان يكون في أضعف حالاته وأقلها مقاومة إذا مُدح في وجهه، بل ربما تنهار مقاومته ويعطي بلا حساب ولا مقابل لمجرد كلمة مدح، وفي هذا الثناء والمدح تهيئة وإعداد لتقبل آراء المادح حيث لا يريد الإنسان أن يفقد الثقة ممن يمدحه أو يتحمل أن يغير رأيه فيه، وفي هذا تحطيم آخر للقوى الدفاعية بحيث لا يستطيع الفكاك من خصمه ويسلم له برأيه ويقبل بأي عرض من العروض التي يعرضها عليه.
- تعظيم وتهويل الفعل المخالف للمحاوَر حتى يقر بنفسه بعظم جرمه وخطيئته، وربما يكون على استعداد ليتقبل العروض المقدمة إليه بل ويعتبرها منة منهم لا حقا له، ويقبل أدناها فضلا عن خيرها، فقال وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم... وهنا يستعين المحاوِر بالمحاوَر على نفسه لتقبيح فعلته والتسليم لمحاوره كي يتلاعب به كيف يشاء، وهنا ينهي عتبة على آخر الخطوط الدفاعية لمحاوره- حسبما يظن- ويجعلها مستعدا لتقبل العروض التي سيعرضها عليه لتكون له طوق النجاة للخروج من محنته التي أوقع نفسه فيها، بل ويشعره عتبة أن هذه العروض ما هي إلا محض كرم من قبيلته عليه لمراعاتهم حرمة انتسابه إليهم وذلك من سعة صدرهم وحلمهم وصفحهم.
- عرض عليه أربعة أمور (الملك- المال- السيادة والجاه- الدواء)، فإن كنت طالبا ملكا ملكناك علينا، وان كنت طالبا مالا جمعنا لك وأعطيناك، وان كنت طالبا سيادة لا نقضى أمرا بدون رأيك، وان كنت مريضا بهذا بحثنا لك عن أمهر المعالجين لنعالجك، إنها عروض سخية جدا لا يستطيع أن يقاومها صاحب دنيا، ولا يمكن أن يردها عاقل إن كان باحثا عن متاع الدنيا وزينتها.
رد النبي عليه:
- حسن الأدب والمعاملة حتى مع المشركين: كان عتبة بن ربيعة أكبر سنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحترمه لكبر سنه كما كان يفعل العربي الكريم مع الآسن منه، فتعامل معه النبي صلى الله عليه وسلم بخلق عال راق، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتحدث مع رجل مشرك لا يساوي شيئا في ميزان الله سبحانه، بل إن المسلم الضعيف له مكانه عند الله لا يعادلها ملئ الأرض من المشركين، فكان من الممكن أن يخاطبه باسمه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه بكنيته مرتين، وفي ذلك تهدئة لقلب المحاور اذكي الفطن بأن يذعن لقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف انه يجلس مع رجل يقدر الرجال ويحترمهم.
- لم يقاطعه النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما سرد بل تركه حتى ينتهي وفي هذا خلق راق عال من النبي صلى الله عليه وسلم وسيقع في نفس محاوره بمكان، والأهم من ذلك انه سيسمح للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يتكلم حتى ينتهي دون مقاطعة معاملة بالمثل
- لم يُستفز النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقاطع عتبة رغم اتهاماته الواضحة بأنه جاء ليفرق قومه ويسفه أحلامهم، فلم يتطرق النبي صلى الله عليه وسلم عند رده عليه لمسائل فرعية ومعارك جانبية كلامية. فليس المقام مقام رد اتهامات، ولم يهتم أيضا بالسبة التي جاءت في ثنايا حديث عتبة بأن هناك جن مس النبي صلى الله عليه وسلم وان عتبة يتهمه بما اتهمه به قومه من قبل وهو الجنون- حاشاه صلى الله عليه وسلم- ، بل اهتم بالمضمون في كلامه للرد على عروضه التي جاء بها.
- سأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة قائلا: «أفرغت يا أبا الوليد» وهذا سؤال الأذكياء في المحاورة، لكي لا يحاول المحاور أو المناظر أن يتحدث ثانية بدعوى أنه لم يكمل كلامه الذي جاء به، وليضمن صمت محاوره حتى ينتهي من حديثه دون مقاطعة، ففيه إفادة لترتيب أفكاره ولكي يرد على كلامه عرضا بعد عرض ونقطة تلو أخرى.
- البدء في الرد عليه بما يناسب كلامه لكي يدفع عن نفسه كل تهمة ولكي يرد على هذا العرض الخبيث الذي يتهمه في صلب دعوته، فلو قبل واحدا من تلك العروض لأثبت دعواهم بأنه ليس نبيا بل هو طالب دنيا ولهان أمره عليهم جدا.
- لا أفضل في سياقة الردود في المناظرات من الإفحام بالنصوص المنقولة، فحينما تريد أن تفحم محاورا فسق له النصوص متتابعة من كلامك أو من كلام غيرك، فللنصوص وقع غريب على الأنفس التي تسمعها- إذ يقع في القلب تسليم خفي لها- ، وليس هناك كلام يقارب كلام رب العالمين سبحانه، فبدأ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في تلاوة الآيات من بداية سورة فصلت، التي تعالج الغاية من بعث النبي صلى الله عليه وسلم وتعالج ردود الكافرين عليه وترد عليهم ومنها: {كتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}.
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} حتى بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وعتبة يسمع بإنصات واهتمام والآيات تأخذه إلى عالم آخر حتى يسمع الآية الأخيرة فيخاف أن يكمل النبي الآية وتأتي الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
وهنا تتحطم دفاعات عتبة بن ربيعة، وتُنسف كل العروض التي عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يخبره- بالقول الفصل- بأنه نبي لا مدع للنبوة ولا طالب ملك ولا رئاسة ولا مال، وأن ما يأتيه هو الملك من عند الله سبحانه وليس مسا من الشيطان.
فيرجع عتبة مذعورا خائفا متغيرا حتى يقول لقومه خلوا بين محمد وبين الناس، ويقسم قومه من رؤيتهم لوجهه أنه عاد بغير الوجه الذي ذهب به، ويتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بنفس الاتهام القديم ويقولون: سحره والله محمد.
حقا انه سحر، ولكنه سحر بغير ما يعرفه الناس، انه سحر البيان في الحوار والمناظرة وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث الصحيح: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا».
الكاتب: يحيى البوليني.
المصدر: موقع المسلم.